الأزمة السورية بين الاستعصاء الداخلي والتدويل

الأزمة السورية بين الاستعصاء الداخلي والتدويل
ورقة بحثية من إعداد مركز الشرق للبحوث
سبتمبر 2013

تأتي هذه الورقة كخلاصة لعدد من الأوراق وورشات العمل في مركز الشرق للبحوث، لتحليل الأزمة السورية في كل جوانبها، ونقدم هذا التقرير كدمج واستخلاص وتكثيف لهذه الأوراق والورشات.

الباحثون المشرفون

د. سمير التقي (مدير مركز الشرق للبحوث)
حسام ميرو
د. عارف دليلة
د. عبد الله تركماني
موسى قلّاب
الباحثون المشاركون

إبراهيم الأصيل
رشا الجندي
زينة الباشا
سوسن التقي
منير الريّس
وائل اللحّام

أقسام الورقة

– القسم الأول: الحراك الدولي عشية الضربة الأمريكية ضد النظام السوري
o الولايات المتحدة
o روسيا
o دول مجلس التعاون
– القسم الثاني: سيناريوهات الضربة العسكرية الأمريكية ضد النظام السوري
– القسم الثالث: الوضع الاقتصادي والتداعيات المحتملة للضربة
– القسم الرابع: الأثر المحتمل للضربة على وضع القوى الثورة المسلحة والمدنية
– استنتاجات

القسم الأول: الحراك الدولي عشية الضربة على سوريا

o الولايات المتحدة
تحولّات الرؤية الأمريكية للعالم فيما تبقّى من عهد أوباما:
في ظل الحديث عن تراجع الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق، والانتقادات التي وجهت إلى سياسة أوباما الخارجية، فإن قرار الضربة الأمريكية على سوريا من شأنه أن يدحض كل ما سبق.
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن انسحاب الولايات المتحدة وتسليم شؤون المنطقة إلى وكلاء إقليمين حلفاء للولايات المتحدة، لكن عدة عوامل أثبتت خطأ منطق إدارة أزمة الربيع العربي:
– تبين أن الطابع الأيديولوجي للموقف التركي وانكشاف محدودية تأثير تركيا في إدارة تداعيات الربيع العربي (سوريا، تونس ومصر)، قد أدى إلى تعثّر كبير وأخطاء كثيرة.
– في حين عملت قطر على أن تصبح الذراع الاستراتيجي لإدارة دور الإسلام السياسي في مجريات الربيع العربي، فإن قوى الإسلام السياسي فشلت في تحقيق تحالف مؤسس لمشروع وطني جديد في هذه البلدان. كما أنها قامت بدعم طيف واسع من القوى الإسلامية المتشددة في سوريا بشكل عشوائي سمح بتكوين فصائل ارهابية خارجة عن السيطرة وتتمتع بتمويل كبير، الأمر الذي أساء بدوره لمسار الأزمة السورية. ومع ضعف الإسلام السياسي وتراجع مشروعه، نشأت مخاطر جدية من انحراف تداعيات الربيع العربي في اتجاه قد يخدم إيران والقوى الراديكالية المتطرفة، بل ويخلق فرصة لروسيا أو حتى للصين لتحقيق اختراق استراتيجي للمنطقة في إطار تداعيات الربيع العربي.

لا بد من الإشارة إلى أن إرث الحرب الأمريكية على الإرهاب قد أثّر بشكل مباشر على مسألة التحرك من أجل حل الأزمة في سوريا، وهذا ما عبّر عنه العديد من الخبراء الأمريكيين المختصين في السياسة الخارجية، وعدد من الديمقراطيين المتخوفين من تكرار تجربة العراق، وتحمل الولايات المتحدة مسؤولية ما سيحصل عقب الضربة من أثار سلبية.
وبدا لفترة طويلة أن أوباما في سعيه لتركيز جهوده على تعريف الموقع الجيو- اقتصادي للولايات المتحدة في العالم من خلال احتواء وإدارة العلاقة مع الصين، إضافة إلى تراجع أهمية الشرق الأوسط كأحد المصادر المتفردة للطاقة المتفردة في العالم، قد أصبح ميالاً لإعطاء المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط أهمية ثانوية، وثمة تقدير لهذا الموقف بأن أوباما قد وجد في حماس روسيا للاستئثار في إدارة الأزمة السورية مجالاً لإغرائها في التعامل مع الولايات المتحدة في جملة ملفات دولية أخرى، وعلى رأسها احتواء الصين وملف وسط أسيا، والملف النووي الإيراني.
وبالمقابل، أظهرت أزمة الملف النووي الإيراني إحجاماً كبيراً في الإدارة الأمريكية عن طمأنة حلفائها التقليديين حول جديتها في الضغط عسكرياً على إيران في حال استمراراها في المناورة في ملف المفاوضات.
لكن الأحداث سرعان ما أثبتت أن سياسة الولايات المتحدة بعناصرها السابقة الذكر تعاني من تعثر كبير وصل إلى حد الاستعصاء، ليس فقط في مقاربة أوباما للربيع العربي، بل وفي موازنة الأولويات الدولية والإقليمية. وبدا ذلك واضحاً سواءً في مصر أو مع روسيا (قضية سنودن، المناورات العسكرية مع الصين) والسلوك المخادع لبوتين فيما يتعلق بالأزمة السورية. وأدت هذه العوامل وغيرها إلى دخول الأزمة السورية مرحلة أصبح من الواضح أنها يمكن أن تهدد بتفشي الأزمة السورية في المنطقة بشكل واسع، في وقت يسود فيه الشعور لدى حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بتخليها عن التزاماتها، لدرجة أن معظمهم أصبح يبحث عن تعويض هذا الفراغ لإعادة تأسيس تحالفاته الإقليمية والدولية.

بدت مجمل هذه الملامح واضحة عشية عطلة الكونغرس:
وكان الرئيس أوباما يفترض أن يكون شهر أغسطس/ آب شهر تمرير مشروع قانون الهجرة أمام الكونغرس ودفع الصفقة التي رُسمت خطتها حول العجز المالي مع الجمهوريين الى الأمام، كتتمة لسلسلة النجاحات التي حققتها إدارة البيت الأبيض، لكن الواقع الراهن يضع الرئيس أوباما في مواجهة المزيد من المعوقات التي تشتت الجهود الداخلية والخارجية على حد سواء، خصوصاً مع تكشف برنامج المراقبة الحكومي السري بعد تداعيات “قضية سنودن” ، وتصاعد الجدل حول قانوني الهجرة والتأمين الصحي، بالإضافة إلى محاولات الجمهوريين المتكررة لتوجيه الأنظار حول احتمالات فشل الصفقة الكبرى مع إيران، مما يجعله اليوم بحاجة إلى إعادة تقييم سياساته الداخلية والخارجية.
قبل يوم واحد من موعد مغادرته لقضاء إجازته الصيفية كان الرئيس أوباما قد أوضح نيته في إعادة تقييم مدى نجاعة سياسات إدارته عبر الإعلان عن رغبته بالتوجه الى الكونغرس من أجل وضع الإصلاحات المناسبة لبرنامج المراقبة السري الخاص بوكالة الأمن القومي، لكن دون وجود إعلان عن نية في التوقف عن تسجيل مكالمات الهاتف وجمع المعلومات اللازمة منها، وذلك في ظل تزايد الهجوم على سياسية إدارة الرئيس أوباما بسببه مواقفه المترددة في أغلب الأحيان في إصدار موقف واضح تجاه الأزمات العالمية. ويحاول الجمهوريين توجيه اللوم لشخص الرئيس حول الموقف تجاه الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط وتركها لمصيرها.
وعلى التوازي من ذلك ظهرت مدارس جديدة داخل الحزب الديمقراطي تعارض سياسات الرئيس الأمريكي الحالية، مما قد يكون بداية النهاية لعهد “الأوباموية”، أو على الأقل خضوعها لتعديلات رئيسية، إذ في سابقة لافتة من نوعها قدّم عدد من كبار الشخصيات الأمريكية في السياسة الخارجية، وهما وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت ومبعوث الرئاسة السابق الى السودان ريتشارد وليامسون، بحثاً معمقاً حول قانون “مسؤولية الحماية” تجاه المدنيين، والبحث في الانتقال من مرحلة الأقوال الى الأفعال، وأشارا فيه الى ضرورة التزام الولايات المتحدة الأمريكية بمركزها القيادي في العالم، والوفاء بالتزاماتها بمعايير قانون “مسؤولية الحماية” من أجل خلق قاعدة دولية تهدف الى حماية المدنيين من مذابح الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
لكن استخدام الكيماوي في سوريا، ودعوة أوباما إلى تطبيق التزاماته، جعلته مُطالباً بتعديل سياساته، وإعادة تقيمها، وإصلاح أخطائه السابقة في مدة زمنية أقصر، ما يزيد الضغوط على الرئيس الأمريكي بشكل أكبر.

السيناريوهات المحتملة لمشروع الضربة:
لا بد للإدارة الأمريكية من أخذ عدة عوامل بعين الحسبان قبل إجراء الضربة، إذ أن السيناريوهات المحتملة والمتعلقة بطبيعة الضربة وأهدافها وتبعاتها ستؤثر بشكل مباشر على مدى نجاحها. كما أن تحديد أهداف التدخل الأمريكي في سوريا، سواء العسكرية أو السياسية تلعب الدور الأكبر في تحديد طبيعة الضربة العسكرية. كما تأخذ الادارة الأمريكية في حساباتها الردود المحتملة لحلفاء النظام السوري، أو حتى من قبل النظام نفسه. بناءً على ما سبق يمكن طرح أربعة سيناريوهات:
1- سيناريو “لا ضربة”: يمكن أن يفسر عزوف الإدارة الأمريكية عن التورط بضربة عسكرية ضد سوريا إلى حسابات سياسية ذاتية تتعلق بتردي الموقف الاستراتيجي العام للولايات المتحدة في المنطقة، وعمق وكثافة حالة الإعياء والاعتلال الاستراتيجي الأمريكي، وتوقع حدوث تداعيات عكسية ارتدادية توسع من نطاق هذه الحالة الأمريكية. كما أنه من المتوقع أن يتم ذلك في إطار دخول روسيا على الخط التفاوضي الدولي والاتفاق مع الولايات المتحدة على عدم توجيه الضربة العسكرية بهدف إيجاد حل سياسي للأزمة السورية تضمنه روسيا من خلال تامين موافقة النظام السوري على متطلبات مؤتمر جنيف.
بالرغم من ضعف احتمال هذا السيناريو إلا أنه لا يمكن استبعاده، وسيكون تراجع أوباما عن القيام بعمل عسكري بمثابة فشل سياسي كبير، ليس فقط على الصعيد الخارجي، بل وعلى الصعيد الداخلي والحزبي أيضاً.
2- سيناريو “الضربة المحدودة الرمزية”: ضمن هذا السيناريو سيتم ضرب أهداف عسكرية محدودة لا تساهم بتخفيض المقدرات القتالية للنظام، ولا تضعف النظام السوري بشكل يغير من قواعد الصراع. هذا السيناريو لن ينقذ أوباما سياسياً، إذ ستنتقده جميع الأطراف سواءً أكانت المعادية أو المؤيدة للضربة، وسيظهر أوباما كرئيس ضعيف، ما سيؤكّد تراجع دور الولايات المتحدة الاستراتيجي في الشرق الأوسط، كما سيسمح لبشار الأسد بتصعيد هجماته، ولحلفائه بالمزيد من السياسات العدائية تجاه الولايات المتحدة.
3- سيناريو “الضربة النوعية”: أي توجيه ضربة عسكرية مدروسة، تضرب على التوازي مراكز قوة النظام، إضافة إلى مراكز قوة الجماعات المتطرفة، بشكل لا يسمح لها بتعزيز نفوذها. لكن في هذه الحالة لا بد من التنسيق مع القوى العسكرية المعتدلة لمرحلة ما بعد الضربة كي لا تعم الفوضى. كما لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن انهيار النظام بشكل سريع سيؤدي إلى حالة من الفوضى. لا يمكن أن تتكامل أهداف “الضربة النوعية” ما لم تتزامن بدعم مادي وعسكري للقوى العسكرية المعتدلة والإدارات المدنية السلمية.
لذلك فإن الضربة النوعية قد تؤدي إلى حالة من استقرار الصراع، الأمر الذي سيسمح بما يلي:
 نشوء مناطق آمنة خارجة عن سيطرة الدولة تسمح بمرور المساعدات.
 نشوء سلطات محلية، واقتناع الأطراف السورية المتورطة في النزاع بأنه ما من طرف قادر على حسم الصراع لمصلحته.
 العمل على تدعيم القوى المعتدلة في المعسكر المؤيد للنظام.
4- سيناريو “الضربة العشوائية” الكاسحة مع غياب سياسة واضحة في دعم القوى المعتدلة: أي توجيه ضربات موجعة للنظام السوري تنهك قدراته العسكرية والأمنية وتؤدي إلى انهياره بشكل سريع، من دون وجود بدائل قادرة على ملء الفراغ الذي سيخلفه، وبالتالي استغلال القوة المتطرفة لهذا الظرف وإحكام سيطرتها.
خلاصة:
بالنسبة للولايات المتحدة ستكون الضربة العسكرية الغربية بقيادتها ضد النظام السوري بمثابة استعادة لدور الولايات المتحدة في الأزمة السورية، فبعد أن كانت تتخذ منطق القيادة من الخلف، هاهي تحاول الآن أن تثبت أنها ما زالت لاعباً فاعلاً في المنطقة. فاستخدام السلاح الكيماوي في سوريا جعل الأزمة السورية تتعدى بعدها الإقليمي لتصبح أزمة دولية بامتياز.
من هذا المنظور فإن الضربة العسكرية الأمريكية للنظام السوري لن تبدل مسارات الصراع على الصعيد السوري والإقليمي بما يدعم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وحسب، وإنما أيضاً ستحدث تبدلات جدية في سياسة أوباما في المرحلة المتبقية من رئاسته. وفي حين أنه قد لا يكون هذا البعد الجديد بمثابة تغيير جذري عن سياسته الخارجية السابقة، بل بمثابة تبدل تدريجي لتدقيق هذه السياسات.

o روسيا:
بدا السلوك الروسي تجاه أحداث الربيع العربي وتداعياته بأنّه يتّسم بقدر عالٍ من البراغماتية من جهة والعودة إلى ركائز السياسة السوفيتية السابقة القائمة على مبدأ “أنّ كلّ خسارة للولايات المتحدة هي ربح لروسيا”، وعلى مبدأ “الوقوف ضد وصول الإسلام السياسي السنّي” إلى السلطة تحت ذرائع مختلفة.
تجاه الأزمة السورية، حاولت روسيا إبقاء الولايات المتحدة تحت قبة الأمم المتحدة، وحاولت إقناعها بقدرتها على إدارة الملف السوري، والسير به تدريجياً نحو الحوار والحل السياسي. لكنّ روسيا بالمقابل لم تكتف بدعم النظام والعمل على تصليب مواقفه السياسية والعسكرية والمالية بل عملت على الاستفادة من قبول الولايات المتحدة بمنطق القيادة من الخلف من أجل كسب الوقت، وإتاحة الفرصة لحلفائها الإقليميين لتحقيق نصر حاسم، يخرج عملياً الولايات المتحدة من المنطقة. وتبيّن ذلك بشكلٍ واضح مع استمرار الإدارة الرّوسية بالاعتقاد بوهن الإدارة الأمريكية واعتلالها، وعدم قدرتها على تجاوز أزماتها الاقتصادية، وعقدة التورّط العسكري.
استمرّت الإدارة الرّوسية بسياسة مزدوجة على محورين:
المحور الأول: إبقاء الحوار مع الولايات المتحدة بهدف طمأنتها والتقليل من مخاوفها.
المحور الثاني: الاستفادة من الأوضاع القائمة من أجل تحقيق المزيد من النجاح في ملء الفراغ الذي يخلّفه انحسار الدور الأمريكي الإقليمي.
فشلت الإدارة الرّوسية في إقناع النظام السوري بالحاجة للحوار وايجاد مخرج سياسي، كما فشل النظام بالمقابل في أي اختراق استراتيجي يسمح باستعادة السيطرة على البلاد، ناهيك عن فشل روسيا في منع تفشي الأزمة إلى المحيط الإقليمي.
إن مجمل هذه الأوضاع وضعت مبدأ القيادة من الخلف من قبل الإدارة الأمريكية وتسليم مفاتيح الحل السوري للدولة الروسية موضع شكّ كبير، بل وتعزّز ذلك بعددٍ من ردود الأفعال الرّوسية التي بدت فيها الإدارة الرّوسية مستعدة لتصعيد التوتر مع الولايات المتحدة بشكل خطرٍ، سواءً فيما يتعلّق بفضيحة “سنودن” أو بالمناورات العسكرية الصينية-الروسية ، أو فيما يتعلّق بالوضع في آسيا الوسطى ومتطلبات انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، إلى ان وصلت العلاقات الأمريكية-الروسية إلى حالة من التوتر الشديد لم تعد روسيا معه قادرة على إقناع الولايات المتحدة بالاستمرار في القيادة من الخلف.
لا شكّ بأن التهديد بتوجيه ضربة عسكرية لمقدّرات النظام السوري ستلاقي ردّ فعل مختلط من القيادة الروسية:
1- فهي قد تحاول أولاً جعل هذه الضربة فاشلة ومكلفةً بشكل لا يطاق للولايات المتحدة، ويحمل هذا التوجه أبعاداً عسكرية وسياسية هامّة.
2- وبالمقابل تستمر روسيا في السعي لابقاء سلوك الولايات المتحدة مؤطراً داخل الأمم المتحدة، فعمل الولايات المتحدة من دون تفويض أممي سيشعر روسيا بالفشل، فهي ترى أن ابقاء الولايات المتحدة تحت حظيرة الأمم المتحدة يسمح لها إلى حدّ بعيد بتقييد جهودها الولايات المتحدة العسكرية، كما يسمح لها بالاحتفاظ بدور ما في مرحلة ما بعد الضربة.
لا شكّ أنّ تمكّن الولايات المتحدة من إنجاز المهمة الصعبة القائمة على ضربة جراحية ناجحة تؤدي إلى تخفيض المقدّرات العسكرية للنظام ، وتدعم وتؤسس لسلطة القوى المعتدلة للانتفاضة السورية سواءً من الناحية العسكرية أو المدنية، سوف يضع الإدارة الروسية وسياستها في موضع صعبٍ جداً.
فبعد أن وضعت روسيا نفسها في موقع عداءٍ جبهي مع العالم الإسلامي السنيّ واتخذت موقفاً غير مبرّر في تغطية جرائم نظام الأسد فها هي تجد نفسها أمام صورة من يدعم القوى البائدة في المنطقة، ويشجعها على السير نحو الهاوية.
وبدا لفترة مضت من استمرار التردّد الأمريكي أن الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة قد بدأوا في البحث عن شريك دولي قوي وجدوا شيئاً منه في العلاقة مع روسيا (زيارة نتنياهو وزيارة بندر إلى موسكو) إلا أن الضربة الكيماوية التي قام بها بشار الأسد قد سمحت للولايات المتحدة باستعادة زمام المبادرة وطمأنة حلفائها تجاه دورها في المنطقة.
ومن المحتمل أن تؤدي الضربة الأمريكية للنظام السوري إلى تبدل نوعي في المناخ العام المحيط بالسياسة الروسية في المنطقة. ومما لا شك فيه أن الكثير سيتعلق بمدى الضرر الذي ستلحقه المجابهة الدبلوماسية والسياسية والعسكرية غير المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة من جهة، ومن جهة أخرى بالتداعيات التي ستحصل على علاقات روسيا بالدول الإقليمية سواء منها الموافق على الضربة أو تلك التي ستعمل على إحباطها.
وتشير الدلائل الأولية التي تثيرها حالة التوتر العالية في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة إلى أن روسيا قد تسعى لأن “تدمي أنف ” أوباما من خلال المساعدة غير المباشرة للنظام سواءً من خلال تعويضه بالسلاح أو من خلال دعمه إعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً.
لذلك فان الكثير من مصير موقع روسيا في المنطقة سيتعلق بمدى تمكن الضربة من إلحاق ضرر كبير بالمقدرات العسكرية للنظام، وعدم إلحاقها أضراراً كبيرة في الخسائر الجانبية في أرواح المدنيين وفي المؤسسات المدنية العامة، على أن يترافق ذلك مع النجاح في بلورة بنية القوى العسكرية المعتدلة، وتمكينها من ملء الفراغات الناشئة عن تبعثر وإعادة انتشار قوات النظام. ومما يرجح هذا التصور استمرار الدعم الروسي العسكري للنظام. (وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، شهدت واردات السلاح السورية من روسيا ارتفاعاً وصل الى 600% ما بين عام 2007 و2011 حيث تؤمن روسيا ما يعادل 72% من قدرة النظام السوري العسكرية.
وفي حال تمت الضربة بشكلها “الجراحي” هناك عدد من النتائج المترتبة بالنسبة لروسيا. إذ لاشك أنها ستؤثر على موقع روسيا وصورتها الدولية من حيث أنها ستجد نفسها في موقع من يدعم القوى البائدة في المنطقة لتشجعها على الخسارة الكارثية.
بالإضافة إلى ذلك فلاشك أن نجاح الضربة حسب السيناريو الثالث سيؤدي إلى تعزيز مشاعر الغضب لدى جمهور واسع في المنطقة.
وبالمقابل نجد أن الولايات المتحدة ليست مهتمة بإقصاء روسيا تماماً عن المنطقة ما لم تعمل روسيا بشكل عدواني لإفشال أهداف الضربة. لذلك يمكن الافتراض أن الولايات المتحدة سوف لن تمانع في أن تسمح بدور ما لروسيا في عملية التسوية النهائية سواء في إطار جنيف 2 أو في إطار صياغة مصالحة وطنية من خارج مؤتمر جنيف، بما يعزز عوامل الاطمئنان لدى بعض المكونات السورية تجاه مآلات الحل.
لذلك من المرجح أن تستمر روسيا بإطلاق بعض المبادرات تجاه الآزمة السورية، ومن المرجح أن تقوم بدعوة مجلس الأمن فور حصول الضربة، وأن تعمل على تحقيق وقف لإطلاق النار بين الولايات المتحدة والنظام في أقرب وقت ممكن، في محاولة لتحديد الأضرار على مقدرات النظام، وفي محاولة لإفشال إمكانية وصول الضربة إلى أهدافها المعلنة.

o دول مجلس التعاون:
اتسمت السنوات الماضية من الأزمة السورية بصعود دور الدول الإقليمية الكبرى (تركيا، إيران، إسرائيل) في إدارة الوضع الاستراتيجي في المنطقة، وكان ذلك على حساب المتغيّر العربي الذي بدا أنه غير قادر على الإمساك بزمام الأمور.
من جهة أخرى أثارت السياسة الأمريكية الجديدة مخاوف دول مجلس التعاون الخليجي الذي يعتبر الولايات المتحدة حليفه الاستراتيجي، والتي تمثلت بالمظاهر التالية:
– التخلي عن حلفائها التقليديين من الزعماء العرب، وتركهم لمصيرهم مع اندلاع الثورات العربية بعد أن شكّلوا معاً محور التحالف الأمريكي مع العرب لزمن طويل، الأمر الذي عزز المخاطر التي تواجهها دول مجلس التعاون وتركها مكشوفة تجاه العواصف العاتية التي تعصف بالمنطقة، بالإضافة إلى قلق دول مجلس التعاون من مخاطر سياسة أوباما الرخوة تجاه ايران، وفشل الولايات المتحدة في إجبار إسرائيل على الانخراط الجدي في عملية السلام الفلسطيني الإسرائيلي.
وبالتالي كان لا بدّ لدول الخليج من إنتاج سياسات بديلة تدرأ المخاطر عن المنطقة، ونستطيع القول إن المحور الإماراتي –السعودي كان فاعلاً بشكل كبير في الأزمة السورية، خصوصاً في الفترة الأخيرة، بحكم عدم وجود موازن آخر.
كانت زيارة الأمير بندر بن سلطان إلى روسيا الاتحادية من أهم النشاطات الدبلوماسية التي عبرت عن قلق الخليج من سياسة الولايات المتحدة، وفي تعريف المدى الذي قد تصل إليه دول الخليج في ترتيب محيطها، وتأمين مصالحها في حال استمرار الإدارة الأمريكية الراهنة في نهجها الذي يترك المنطقة تحت رحمة موازين قوى إقليمية ودولية لا قبل لها بها في غياب حليف دولي يعتد به.
بالتالي تكمن أهمية تحوّل مسار السياسة الأمريكية من خلال الضربة المحتملة في كونه يشكل مؤشراً إيجابياً بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي:
– تجاوز الانطباع السائد في المنطقة بعدم كفاءة السياسة الأمريكية في مواجهة السياسة الإيرانية.
– كما أن فشل ايران في إدارة الأزمة السورية سينعكس بلا شك على دورها الإقليمي وساحة نفوذها ليس فقط في سوريا بل وفي لبنان والعراق.
نستطيع القول إن دول مجلس التعاون الخليجي عادت إلى مقدّمة الحراك السياسي في المنطقة مع تراجع أحداث مصر الأخيرة، وتراجع الدور المتفرّد لقطر، ومحدودية الدور التركي.
في حال نجاح السيناريو الثالث (سيناريو الضربة النوعية) فإنه من المتوقع أن تتمكن دول مجلس التعاون من تعظيم نجاحاتها الأخيرة، وإعادة ترميم العلاقات مع الحليف الأمريكي، إضافة إلى اكتسابها دوراً حاسماً في مسارات الأزمة السورية.

القسم الثاني: السيناريوهات العسكرية للضربة ضد النظام السوري

في حين نجحت إدارة أوباما بوضع عدد من السيناريوهات لإسقاط الأسد، إلا أن نقطة ضعفها تكمن في عجزها عن تطوير استراتيجية وسيناريو للاستقرار في مرحلة ما بعد الأسد.
ترتبط السيناريوهات التالية بشكل أساسي بتصويت الكونجرس، ولعلّ رهن أوباما للضربة بموافقة الكونجرس هو الورقة الخطرة التي لعبها دون حساب لنتائجها، وهو بذلك حوّل القضية من قضية خارجية إلى داخلية.
مع اقتراب الانتخابات النصفية للكونجرس يعطي النوّاب اهتماماً كبيراً للرأي العام، وهو بمجمله ما زال يعارض الضربة، وهذا ما يدفع الكثير من النوّاب المرشّحين لأن يصعّدوا من لهجتهم الرافضة للضربة.

أمام إدارة اوباما خيارين في حال رفض الكونجرس التصويت لصالح الضربة:
– أن يمضي في الضربة رغم أنف الكونجرس: وسوف يدفع هذا الديموقراطيين في المجلس وخصوصاً من سيخوضون الانتخابات النصفية القادمة إلى ابراز خلافاتهم مع البيت الأبيض، سواءً بخيار الضربة أو في قرارات أخرى.
– الاستجابة لرفض الكونجرس: وهنا ستواجه الإدارة فقداناً هائلاً للمصداقية على الساحة الدولية.
رفض الكونجرس للضربة، وبغض النظر عن اختيار اوباما المضي في الضربة من عدمه، سيؤدي إلى أن يخسر كثيراً من وزنه داخلياً، وستتراجع شعبيته ونفوذه كما حصل مع جورج بوش (الابن) في نهاية فترته الرئاسية الثانية.
قد تظهر في الأفق مبادرات سياسية تساعد اوباما على حفظ ماء وجهه، وهي قد تأتي من روسيا، ايران، أو الأسد: فيمكن أن تقدّم موسكو مبادرة من شأنها أن تبدو تقريعاً للأسد ودخولاً إلى ساحة المفاوضات، أو أن يقترح الايرانيين مبادرة ما ترتكز على تأجيل الضربة وتفرض حلّاً سياسياً، ، أو أن يقوم الأسد بحركة مسرحية كبيرة كإلقاء القبض على أحد الضباط رفيعي المستوى بتهمة استخدام الأسلحة الكيماوية.
مشكلة المبادرات السابقة المحتملة أنّها تأتي من الخارج، وهي وإن سمحت لأوباما بإنقاذ نفسه على المدى القصير، إلّا أنها تشكّل خطر استراتيجي جديد لإدارته بعد أن علّق مصيره مرّة أخرى بيد دولة من خصوم الولايات المتحدة.
سيضطر أوباما لتقديم عدد من التنازلات الصعبة للجمهوريين لكسب اصواتهم، واذا تمكّن الجمهوريون خلال ذلك من بناء تحالفات فسيستخدمونها لإجهاض المرحلة الثانية من إصلاحات اوباما لنظام التأمين الصحي ووقف مشروعه لزيادة سقف العجز، أي لإتاحة هامش أوسع لإدارته للإنفاق وغير ذلك من قضايا داخلية، فسيكسب الجمهوريون زمام المبادرة مع بدء العام الجديد، أي مع عودة الكونجرس للانعقاد.

يمكن تلخيص السيناريوهات الممكنة كما يلي:

1 . السيناريو الاول : عدم حصول الضربة العسكرية:
تراجع الولايات المتحدة، وبالذات الرئيس باراك اوباما، عن قرار الضربة العسكرية تجاه النظام السوري سيعطي النظام السوري مساحة إضافية للتحرّك وتصعيد العنف، مطمئناً لزوال خطر التدخل العسكري الخارجي ضدّه، مع ضمان استمرار الدعم الخارجي من حلفائه الرّوس والايرانيين. هذا التصعيد سيؤدي للمزيد من القتل، وبالتالي إلى المزيد من التطرّف لدى أطراف النزاع.

ستتوجّه الإدارة الأمريكية، في حال فشلت في الحصول على تفويض الكونغرس للقيام بالضربة العسكرية، إلى زيادة تسليح كتائب الجيش الحر بشكل كبير لضمان تغيير موازين القوى على الأرض، وهذا من شأنه أيضاً أن يزيد من احتمال تصاعد العنف والتطرّف.
2 . السيناريو الثاني: ضربة رمزية وشكلية.
– اقتصار الضربة العسكرية “الرمزية والشكلية” على رشقات كروز صاروخية ” توما هوك” ضد أهداف ومواقع عسكرية محدودة ورمزية لا تؤدي إلى تخفيض جدي في المقدرات العسكرية للنظام، بما يسمح للنظام السوري بامتصاص آثارها ونتائجها، وضمان بقاء سيطرته وموفقه العسكري.
3 . السيناريو الثالث: ضربة قوية ومؤثرة لكنها نوعية:
– تتم من خلال ضربات عسكرية واسعة للأهداف السورية الحساسة بحيث تُدمَّر وتخرج عن العمل بشكل كبير منظومات الدفاع الجوي والقواعد الجوية والطائرات القتالية ومقرات التشكيلات الرئيسية ومراكز القيادة والسيطرة والاتصالات مرابض الصواريخ الثابتة أو المتحركة (القدرة على ضربها تبقى نسبية).
– توسيع نطاق قائمة “اختيار الأسلحة وتحديد الأهداف” بما يشمل 75 هدفاً في البداية، قابلة للتوسيع بحسب ردة الفعل على الأرض، بحيث يتم استخدام مجموعات الذخائر المباشرة والموجهة، الخارقة للتحصينات العميقة JDAM’s بما في ذلك القنابل الموجهة بأشعة الليزر والصواريخ الموجهة بأشعة الرادار، لتحقيق البعد النوعي في تدمير الأهداف الحيوية.
4 . السيناريو الرابع: الاعتماد الأمريكي الكلي على القوى العسكرية من خلال تحقيق ضربة واسعة وشاملة لا تكون مدعمة بالعمل على الأرض مع قوات الجيش الحر ومع الإدارات المدنية.

القسم الثالث: الوضع الاقتصادي والتداعيات المحتملة للضربة

لم يعد بالإمكان الحديث اليوم عن نظام اقتصادي في سوريا، فما هو قائم الآن هو تشظيات اقتصاد دولة كان مترابطاً ومندمجاً ومتمحوراً على الذات ويدار مركزياً على الرغم من الارتفاع الكبير لنصيب القطاع الخاص في توليد الناتج المحلي الإجمالي ليبلغ نحو 67% عام 2010.
كان سعر صرف الليرة السورية تجاه الدولار شبه ثابت خلال العشرين عاماً الماضية منذ مطلع التسعينات حتى عام 2011، بل مال إلى الارتفاع قليلاً من 52 ليرة سورية للدولار إلى نحو 46.5.
بينما استقر إنتاج القمح عند الوفاء بالاحتياجات المحلية ليبلغ حوالي 3.5-4 ملايين طن سنوياً. وعلى الرغم من ذلك فقد اختفى الفائض القابل للتصدير خلال السنوات الماضية، لتعود سوريا بعدها إلى الاستيراد لإشباع حاجاتها من القمح.
أما القطن قفد انخفض إنتاجه من حوالي مليون طن سنوياً إلى حوالي 600 ألف طن سنوياً. استمرت الحكومة بتصدير أكثر من نصف إنتاجها بينما استخدمت ما تبقي في صناعات الغزل والنسيج المحلية.
أدى الانخفاض المستمر في إنتاج النفط الخام في سوريا من نحو 630 ألف برميل يومياً إلى نحو 340 ألف برميل يومياً إلى تحول الميزان النفطي السوري إلى ميزان عاجز بما يزيد عن ملياري دولار سنوياً.
بقي الاحتياطي من القطع الأجنبي مرتفعاً نسبياً عند مستوى 17-18 مليار دولار، وذلك بحسب التصريحات الرسمية، وذلك بسبب تعمد الحكومة تجميع الإيرادات، وتقليص الإنفاق خلال العقدين الأخيرين.
منذ عام 2005، أخذت المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تتطور سلباً في سوريا، فانخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، وارتفعت معدلات البطالة والفقر، وانخفض نصيب الفرد من الدخل القومي، وزادت الهجرة الداخلية والخارجية. فيما انخفضت القدرات التنافسية للاقتصاد السوري وجاذبيته الاستثمارية، وتوقفت تقريباً حركة إنشاء المشروعات الجديدة، واقتصر التحديث على النمو الاستهلاكي المظهري المتمثل بالإنشاءات السكنية الفاخرة وغير الشعبية. كما تضخم عدد السيارات الخاصة بعد عقود من الحرمان، بسبب منع الاستيراد أو ارتفاع الرسوم الجمركية بشكل بالغ.
وكان لهذه التراكمات آثارها السلبية في خلق الظروف المواتية للانفجار الاجتماعي السياسي الذي شهدته سوريا بعد انطلاق ما يسمى بالربيع العربي في شهر مارس/ آذار عام 2011. حيث اندلعت الانتفاضة الشعبية في سوريا رافعة مطالب الحرية والكرامة والتغيير.
في النصف الثاني من عام 2011، شهدت البيئة الاقتصادية السورية عدداً من التغيرات الشاملة، بدأت بتردي سعر صرف الليرة السورية التي خسرت أكثر من ثلث قيمتها حتى نهاية عام 2011. واستمر الشلل بالانتشار في مركز وأطراف الاقتصاد السوري على مدى عام 2012. إلا أن عام 2013 شهد ما يشبه الانهيار الكامل في البيئة الاقتصادية وعملية إدارة الاقتصاد.
فلم يعد بالإمكان الحديث عن اقتصاد سوري مدار مركزياً ومتكامل ومندمج ومتمحور على ذاته، كما لم يعد بالإمكان الحديث عن قطاع عام وقطاع خاص ولا عن سوق. تقطعت أوصال النظام الاقتصادي قطاعياً وجغرافياً وفقدت السلطات والمؤسسات المركزية قدرتها على القيام بمهامها ووظائفها الأساسية.
كما فقدت السوق السورية وحدتها وترابطها وحتى موسميتها لبعض المنتجات الأساسية. وذلك على الرغم من تمسك السلطة المركزية بالخطاب الرسمي التقليدي، كإدارة النقد والتسليف، والإنشاء والتشييد، والإمداد والتموين، والاستيراد والتصدير والدعم والتسعير… إلخ.
لكن الإدارة المركزية كابرت حتى أصبحت الأسواق مجزأة ومنفصلة عن بعضها ومتمايزة إلى حد كبير قي توافر المواد وأسعارها. وفقدت بشكل متسارع السيطرة على وظائفها التقليدية التي كانت تؤديها اقتصادياً واجتماعياً وذلك تبعاً لفقدانها السلطة المركزية أمنياً وسياسياً.
فقدت الإدارة الحكومية بشكل أساسي السيطرة على السلع الاستراتيجية الأساسية مثل النفط، القمح، والقطن التي وقعت معظمها تحت سيطرة المعارضة المسلحة في المناطق الشمالية الشرقية. وجرى تصريف ما هو متوفر منها بعيداً عن الحاجات العامة، مما قوض أسس إعادة الإنتاج ومستلزماته للأعوام التالية.
كما فقدت الإدارة الحكومية السيطرة على المعابر الحدودية الرئيسية، مما سمح ليس فقط بعبور الحدود من قبل الأفراد (النازحين والمسلحين القادميين من الخارج) بل سمح بعبور كافة أنواع السلع وتفكيك بعض المعامل، ونقل المنتجات الأساسية من الداخل إلى الخارج، بعيداً عن سيطرة ورقابة الإدارة الحكومية، مما أفقد هذه الإدارة الكثير من الإيرادات وأحوجها إلى الأموال لتوفير بعض الضروريات، مثل الوقود والحبوب، وهو الأمر الذي أوقع السوق باختلالات شديدة، وقلص – بالإضافة إلى التدمير الواسع- من القدرات الإنتاجية للقطاعين العام والخاص، وزاد بحد كبير من البطالة التي يتحول قسم كبير من أفرادها إلى ثوريين مسلحين أو جناة من مختلف الأنواع.

نتج عن ذلك كله
• تزايد كبير في عجز الموازنة الحكومية التي بلغ نحو 745 مليار ليرة سورية.
• انكماش في الدخل القومي بأكثر من 10% وهو الرقم المعلن رسمياً لعام 2012.
• تدهور كبير بسعر صرف الليرة السورية من حوالي 70 ليرة سورية أواخر عام 2011 إلى نحو 200 ليرة سورية في شهر يونيو/ حزيران 2013، ثم إلى 350 ليرة سورية في شهر يوليو/ تموز، ليعود إلى نحو 200 ليرة سورية قبل الحديث عن الضربة العسكرية. ومع بداية توارد الأنباء عن ضربة عسكرية وشيكة لسوريا وصل سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار إلى 265 ، ليعود بالانخفاض بعد تأجيلها.
• الارتفاع الكبير في أسعار السلع الغذائية الضرورية والدوائية والوقود ومستلزمات البناء وكلف النقل وغيرها. وانفلات السيطرة على الأسعار، تبعاً للعرض والطلب ومخاطر النقل والتوزيع وتقلبات سعر الصرف والانفجارات الأمنية وغير ذلك.
• تشظي السوق السورية حسب مصادر السلع (مناطق الانتاج أو خطوط الاستيراد) وحسب أماكن الاستهلاك.
• تعطل شبه كامل للقطاع السياحي، وتعطل ما يزيد عن نصف القطاع الصحي والتعليمي، بحسب التقديرات الكمية، أما من حيث المستوى فقد تدهور مستوى ما تبقى سواءً في المناطق الواقعة تحت سيطرة السلطة أو المعارضة المسلحة.
• تراجع كبير لقيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي والعملات الأخرى، ليصل سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار في السوق السوداء إلى نحو 346 ليرة سورية للدولار في شهر يوليو/ تموز 2013 نتيجة لتراجع لاحتياطيات من النقد الأجنبي، وعمليات المضاربة، بالإضافة إلى العامل النفسي.
• توقف الإنفاق الاستثماري للدولة، وتقلص الإنفاق الجاري فيما يتعلق برواتب موظفي الدولة في المناطق خارج سيطرة النظام.
• ارتفاع حاد وغير منطقي بأسعار السلع الاستهلاكية، كما انتشرت ظاهرة التسعير الكيفي للبضائع ليصل معدل التضخم المعلن من قبل المكتب المركزي للإحصاء إلى نحو 300%. الأمر الذي أدى إلى تراجع إضافي في إنفاق الأفراد، وشكل ضغوطاً إضافية على جميع طبقات الشعب من خلال ذوبان دخول المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وأولويات الإنفاق المترافق مع ارتفاع نسبة البطالة والمتعطلين عن العمل لتصل نسبتها إلى نحو 50%.
• تراجع في الثقة بالليرة السورية، مما أدى إلى ربط أسعار السلع بالدولار، سواءً عبر الربط بالسعر الفوري/اليومي/ في تاريخ شراء البضاعة.
• استنزاف إضافي للاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي ضمن سعيه لإعادة التوازن في السوق، واستمرار العمليات العسكرية، وتوقف إيرادات الدولة من القطع الأجنبي.
• بروز أزمة في توفر المحروقات، بسبب ضرب أنابيب النقل بين المحافظات، وصعوبة تحرك صهاريج نقل البنزين بين المحافظات، بالإضافة إلى مشكلات استيراد المشتقات النفطية من الخارج، والاعتماد على الشحنات من الدول الداعمة للنظام.
• محاولة الدولة موجهة مسألة انخفاض قيمة الليرة والاحتياطي الأجنبي من خلال إبرام اتفاقيات مع الدول المساندة للنظام، مثل اتفاقية المقايضة مع إيران، وإعادة التصدير مع فينزويلا، ومشاريع لاتفاقيات مستقبلية، مثل منطقة التجارة الحرة مع روسيا. بالإضافة إلى قيامها باستيراد المواد الرئيسية وبيعها مباشرة للتجار.
• الحصول على دعم مالي من إيران يقدر بنحو 7 مليارات دولار، بالإضافة إلى الدعم الروسي المقدر بنحو 500 مليون دولار شهرياً.
• استمرار تدمير البنى التحتية والممتلكات العامة والخاصة، حيث وصل عدد الوحدات السكنية المتضررة إلى ما يزيد عن 1.5 مليون وحدة سكنية مدمرة أو متضررة بشكل جزئي. كما قدرت قيمة الخسائر التي أصابت مؤسسات القطاع العام بنحو 1.5 ترليون ليرة سورية، أي ما يعادل نحو 7.5 مليار دولار، وبلغ عدد المنشآت الحكومية التي تعرضت للتخريب أو الدمار إلى أكثر من 9 آلاف منشأة.
• بروز شبكة احتكارات غير رسمية للبضائع والسلع عبر عدد من الشركات خارج سوريا، وخاصة في لبنان والأردن، وغيرها من الدول، وهي شركات مرتبطة بشخصيات من النظام تقوم بالاستفادة من الحصار الاقتصادي المفروض على سوريا بتشكيل شبكة استيراد وتوزيع غير رسمية، وتفرض أسعارها على المواد والمستوردات.
• تركزت سياسة الحكومة على مهمتين أساسيتين، الأولى دفاعية، وتتمثل بقيام وزارتي الدفاع والداخلية بالاشتراك مع الأجهزة الأمنية المختلفة بالوظائف العسكرية والأمنية للدفاع عن السلطة، والثانية محاولة وزارات وأجهزة الدولة المدنية الاستمرار بوظائفها، مثل وزارة الاقتصاد، الكهرباء، الماء، الصحة، التربية والتعليم، التعليم العالي، مؤسسات الخزن والتسويق، البنك المركزي كقيامها مثلاً بعمليات إصلاح شبكات الاتصالات والكهرباء والماء وتشغيل المشافي والمدارس والجامعات ومحاولتها توفير المواد الرئيسية.
استمر ربط أسعار السلع بالدولار سواءً عبر الربط بالسعر الفوري/اليومي/ في تاريخ شراء البضاعة. فيما ازداد الارتباط التجاري بين أجزاء سوريا مع الدول المحيطة القريبة منها، حيث يجري نقل معظم البضائع للمناطق الشمالية عبر الحدود التركية، فيما تستورد دمشق معظم بضائعها عبر درعا والأردن ولبنان. كما ظهرت ملامح لتأقلم المواطنين واستيعابهم للأزمة الاقتصادية والأمنية، وبروز روح جديدة تحمل معها رغبة فئات كثيرة بالاستمرار في الحياة والتعايش مع المتغيرات اليومية.
التغير في أسعار بعض السلع الأساسية

المادة السعر في بداية عام 2013 السعر في بداية شهر أغسطس التغير
الحليب 1 كغ 50 150 200%
رز قصير 85 250 194%
بيض 30 260 600 131%
لبن 1 كغ 125 550 340%
لحم عجل 1 كغ 500 1500 200%
لحم دجاج 1 كغ 550 1100 100%
زبدة 200 غ 120 375 213%
سكر 1 كغ 70 105 50%
زيت طبخ 1 ليتر 250 690 176%
زيت قلي 1 ليتر 130 350 169%

حافظت الليرة السورية على قيمتها مقابل الدولار خلال شهر اغسطس/ آب الماضي واستقر سعر الصرف عند مستوى 200 ± 5 ل.س. للدولار. ومع بداية توارد الأنباء عن ضربة عسكرية وشيكة لسوريا وصل سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار إلى 230 في اليوم الأول بعد الأنباء بتاريخ 27 أغسطس، و265 في اليوم الثاني. أما السعر التدخلي للمصرف المركزي فقد استمر بالانخفاض بواقع ليرة سورية واحد كل يوم قبل توارد أنباء عن الضربة العسكرية ليبلغ 114 ل.س. وليرتفع إلى 124 ل.س. بتاريخ 27 أغسطس في اليوم الأول بعد الأنباء و126 في اليوم الثاني. بشكل عام، استمر توافر معظم السلع الرئيسية في الأسواق مع تثبيت سعر الصرف على مستوى 300 ل.س. للدولار. كما أعلن حاكم مصرف سوريا المركزي الاستعداد التام لتمويل كافة المستوردات وفق احتياجات السوق بسعر صرف 175 ليرة للدولار الواحد ضمن سعي المصرف إلى ضبط الطلب على الدولار واستقرار أسعاره، بالإضافة إلى استقرار الأسعار في السوق السورية. فيما يلي جدول يبين أسعار صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي خلال الفترة الماضية.

التاريخ السعر الرسمي سعر السوق السوداء
27/8 124 230
28/8 126 265
29/8 127 260
31/8 129 235
1/9 129 230
2/9 129 215

تعتمد عملية استقراء وتوقع الآثار الاقتصادية للضربة العسكرية على عاملين أساسيين، وهما مدة الضربة العسكرية، وعمق الضربة. بالإضافة إلى ذلك، فالآثار الاقتصادية على المدى القصير والمتوسط يتم تحديدها من خلال النقاط المستهدفة وأهميتها الاستراتيجية تجارياً ولوجستياً.
وبينما تشهد المناطق الخارجة عن سيطرة الإدارة الحكومية في الشمال الشرقي لسوريا وجنوبها توفر السلع مع انفتاح الحدود مع تركيا والأردن وإلى حد ما مع العراق حسب المناطق، فإن المناطق الواقعة تخت سيطرة الإدارة الحكومية مثل دمشق والمناطق الساحلية تعتمد على لبنان والخارج. أما المنطقة الوسطى فهي ستتزود بالحاجات من مصادر مختلفة.

الوضع الاقتصادي في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام:
مرت الأوضاع الاقتصادية في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام بأزمات عديدة، لكن ومع وصول الأحداث في سوريا إلى استقرار نسبي، وتوضح نطاق المناطق المحررة من المناطق التي يسيطر عليها النظام، بدأت القوى الثائرة بترتيب الموارد الاقتصادية في المناطق التي تتواجد فيها.
في بادئ الأمر، اقتصرت مصادر البضائع في المناطق المحررة على المخازن، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع بشكل كبير، وجعل من بعضها صعبة الوجود في الأسواق. عندما سيطرت قوات الثورة على المعابر الحدودية بين سوريا وتركيا، بدأ ضخ البضائع من الجانب التركي، ليتوزع إلى المناطق المحررة من خلال معابر مؤمنة نسبياً من قبل الثوار، أو بالاتفاق مع حواجز تابعة للنظام بعد التوصل إلى طريقة تحاصص للبضائع والسلع.
بعد سيطرة الثوار على مناطق عديدة في سوريا والعمل على تأمين حصار لبعض المناطق التي يسيطر عليها النظام، ارتفعت أسعار المواد الغذائية في مناطق النظام لخطورة طرق الإمداد أو انعدامها في بعض الأحيان، بينما عادت أسعار السلع لطبيعتها بشكل نسبي في المناطق المحررة، كما حصل في مدينة حلب وريفها، وتظهر بوادر حصوله في درعا والمدن الأخرى.
شهدت مدينة حلب أحداث سرقة بشكل كبير، نُقلت خلاله آليات ومصانع برّاً إلى تركيا، فتحرير المعبر الحدودي عاد بالكثير من الأرباح للطرفين (المعارضة وتركيا). استخدم الثوار المعبر لتوريد السلاح بشكل أساسي، عدا عن المواد الغذائية والمستلزمات اليومية، وكانت صفقات السلاح تسدد من خلال الأموال التي تصل إلى الثوار ومن بيع الآليات التي تمكنوا من الاستيلاء عليها. فعلى سبيل المثال، تم تفكيك معدات آبار نفط في حمص، تصل قيمتها إلى ما بين 15 و 20 مليون دولار، وتحميلها إلى الحدود التركية لتُباع بعد ذلك إلى الخليج بقيمة مليون دولار أمريكي فقط. وقد شملت هذه الأحداث الآثار الموجودة في مناطق تم الاستيلاء عليها وتم تفريغ 12 من أصل 36 متحفاً، وبيعت لجهات مختلفة بأسعار منخفضة، لاستعمال الأموال لشراء السلاح والمواد الغذائية. إن وجهة تهريب الآثار تختلف عن الآليات الصناعية، فالأخيرة يتم إرسالها عبر الشمال إلى تركيا، بينما الآثار يتم تهريبها إلى الأردن غالباً، ويُعتقد أن هذه العمليات تجري بعلمٍ من الموظفين التابعين للنظام على الحدود السورية الأردنية. بالعودة إلى حلب، ومثالأ على البضائع السورية التي تذهب إلى دول الجوار، يتم بيع زيت الزيتون المنتَج في أكبر مصنع للزيت في حلب إلى تركيا بقيمة 50 إلى 85 سنتاً أمريكياً فقط (145 ليرة سورية)، بينما يصل سعر ليتر الزيت في دمشق إلى ما بين 950 إلى 1000 ليرة سورية.
تشير الدراسات إلى أن عدد اللاجئين والنازحين من سوريا إلى دول الجوار تجاوز حالياً ال 1,969,000 لاجئ ، كما هو موضح في الرسم البياني أدناه، وتشير الاحصاءات أنه وبعد التهديد بالضربة الأمريكية على النظام السوري، وصل عدد المسافرين إلى الأردن يومياً إلى 8000 مسافر، بينما وصل هذا العدد إلى قرابة الـ 40,000 على المعبر الحدودي إلى لبنان.

لهذا النزوح الكبير فائدة على المناطق التي يسيطر عليها الثوار، فذلك يؤدي إلى تخفيف الحمل الاقتصادي على قيادات المناطق المحررة، ويخفف من الأضرار وخسائر الأرواح المحتملة في حال تم استهداف هذه المناطق.
لكن الأعداد المتزايدة من اللاجئين تواجه صعوبة بالوصول إلى المخيمات الفقيرة في دول الجوار، وتزيد من أمر تمويل وتأمين حاجيات المخيمات صعوبة، مما دفع بالأردن إلى تصعيب عملية دخول السوريين إلى أراضيها، ومنع العراق دخول السوريين دون شروط محددة.
في حال حصول الضربة الأمريكية على سوريا، سيزداد الضغط الاقتصادي على النظام السوري، ومن المتوقع أن يزداد الدعم الاقتصادي للمناطق المحررة، مما سيؤدي إلى انخفاض بأسعار البضائع والسلع في هذه المناطق ليقابله ارتفاع للأسعار في المناطق التي يسيطر عليها النظام. كانت الولايات المتحدة قد أعلنت تخفيف الحظر على الصادرات المتجهة إلى المناطق المحررة السورية، وهذا ما يُتوقّع أن يحدث على نطاق أوسع وتزامناً مع تشديد للحظر على المناطق غير المحررة، وهو ما سيُضعف النظام، وسيجعل الأزمة المعيشية في مناطقه خانقة على المدنيين بشكل يفوق الوضع الراهن.

السناريوهات المحتملة لوضع الاقتصاد بعد الضربة:
لن نناقش هنا تداعيات السناريو الأول والثاني نظراً لأنهما بالنسبة للوضع الاقتصادي الداخلي يدخلان في تصنيف سيناريو أن لا نقوم بشيء do nothing scenario) ) لذلك سنركز على مناقشة السناريوهين الثالث والرابع.

– السيناريو الثالث: استقرار الصراع وتعزيز الأمن والإدارة في المناطق المحررة
يمكن أن يترافق ذلك بتوسع الحركة التجارية وحركة النقل والتنقل بين المناطق المختلفة وفق اتفاقات ضمنية لتبادل البضائع وانتقال الاشخاص، وخصوصاً بين جنوب سوريا وشمالها، مما يمكن أن ينتج عنه زيادة في الوفرة وانخفاض نسبي في الأسعار بسبب انخفاض تكلفة النقل، ليبقى موضوع انخفاض سعر الدولار موضوع تساؤل في الفترات اللاحقة للضربة.
بالإضافة إلى ذلك، سيؤدي استقرار الصراع إلى تشكيل ممرات ومناطق آمنة تسمح لعودة عدد كبير من المهجرين والنازحين لمدنهم وقراهم، وتمرير المساعدات الغذائية والمالية لهم، مما يهيئ ويسهل عودة الحركة الاقتصادية على المستوى المناطقي، وعلى مستوى البلاد لاحقاً. ولكن هذا الخيار إذا طال به الزمن سيتحول إلى تكريس فعلي لتقسيم سوريا.
يبدو بحسب التصريحات الصادرة عن الأطراف التي تتهيأ للقيام بالضربة العسكرية أن هذا الاحتمال هو الأكثر ترجيحاً حتى الآن.
السناريو الرابع: ضربة عسكرية موسعة تؤدي إلى انهيار كامل للنظام
سيؤدي انهيار النظام إلى شلل الحياة اليومية والاقتصادية نتيجة لتراجع الأمن. ستشهد الليرة السورية انهياراً كبيراً في قيمتها نتيجة عمليات المضاربة وغياب السلطة المركزية. كما ستشهد المملتكات العامة والخاصة المتبقية عميات نهب منظمة من قبل طرفي الصراع، فالقوات الموالية للنظام ستحاول تحقيق مكاسبها المادية الأخيرة، بينما ستجد قوى المعارضة فرصة للقصاص من المناطق الأقل خراباً وكسب الغنائم. بشكل عام ستشهد سوريا تذرراً سياسياً وأمنياً واقتصادياً لفترة طويلة نسبياً، ولن يكون ممكناً القيام بعمليات ضبط لتبعاتها سواءً من القوى المعارضة أو مما تبقى من مؤسسات الدولة. كما ستظهر بشكل واضح حالة انكفاء المناطق عن بعضها اقتصادياً، وتوقف الحركة التجارية بين المحافظات، مما سيؤدي إلى زيادة ارتباط المناطق مع الدول المجاورة لها من جهة، وفقدان بعض المواد الأساسية مثل المحروقات والخبر والسكر أو ارتفاع أسعارها بشكل جنوني من جهة أخرى.
بشكل عام يمكن القول، ورغم أن أي تقدير يقدم الآن سيبقى جزئياً في ظل غياب المعطيات الدقيقة والوصول إلى مختلف المناطق، إن قيمة الخسائر المادية العامة والخاصة لا تقل عن 100 مليار دولار والخسائر في الفرص الضائعة حاضراً ومستقبلاً لا تقل أيضاً عن 100 مليار دولار. أما الخسائر التي لا تقدر برقم، فهي الخسائر الإنسانية وقيمة الموارد البشرية التي لا تقتصر على أكثر من 200 ألف إنسان مابين قتيل ومفقود، وأكثر من 5 ملايين نازح داخل الحدود، بما يشتملون عليه من رأس مال بشري وقيم معنوية – إنسانية، وقيم مجتمعية غير قابلة للتعويض أو إعادة الإنتاج.

القسم الرابع: الأثر المحتمل للضربة على وضع القوى الثورة المسلحة والمدنية

سنحاول فيما يلي رسم ملامح الوضع في سوريا قبل الحادي والعشرين من أغسطس – آب:
من خلال دراساتنا المختلفة في مركز الشرق للبحوث، نستطيع القول إن الوضع العام يتسم بالاستعصاء الكامل في الوضع الداخلي مع استمرار النظام في سياسية كسر معنويات الجمهور العام عن طريق الاستمرار في القتل العشوائي، وفي محاولات اختراق مواقع المعارضة.
لكننا نستطيع الاستنتاج أيضاً أنه بدا من شبه المستحيل تصور أن يتمكن النظام من إجراء أي اختراق استراتيجي في الوضع العسكري، بما يغير خطوط التماس بشكل جذري، أو يهدد استمرار سيطرة قوى الانتفاضة على المناطق الواسعة التي تديرها، سواءً في الشمال والشرق، أو في منطقة درعا، أو ريف دمشق، وحتى في مدينتي حمص وحماة. ونعتقد أن هذه الاستحالة قائمة ليس بسبب التفوق العسكري لقوى الانتفاضة، وليس بسبب الدعم الكامل للحاضنة الشعبية للقوى المسلّحة السائدة، بل بشكل أساسي بسبب فقدان النظام للهيمنة السياسية على الأرض كأفق لحل يمكن أن يسمح لنظام بشار الأسد بالسيطرة على هذه المناطق في ظروف سلم أهلي، وقبول طوعي من الجمهور العام “الرمادي” في المناطق المحررة.
وتشير ابحاثنا أنّ هذا الجمهور العام الذي يجد في الخطاب السياسي للكثير من القوى المسلحة السائدة في مناطقه مخاطر كبيرة لا تعبر عنه سياسياً على الاطلاق بل تثير لديه الكثير من المخاوف لكنه في ذات الوقت لا يجد في النظام أي مخرج. إن العداء للنظام لا يقل عن العداء للتطرف الذي تبديه بعض التنظيمات المسلحة الجهادية. فهؤلاء يعرفون تماماً ما لا يريدون، لكنهم لا يجدون في الخطاب السياسي الرائج أي مخرج عملي يريدونه.
في حين كانت بنية الدولة تستمر في التدهور والتفكك، بحيث يمكن القول إنه لم تعد ثمة ملامح للسلطة المركزية إلّا من خلال منظومة رواتب الموظفين والتي تتدهور قيمتها باستمرار، وانخفضت نسبة أدائها من قبل الدولة على ما يقارب ال 67% من مجمل كتلة الرواتب (بحسب آخر معلومات لمصادرنا).
كما أنه الوضع المعاشي العام استمر بالتدهور، وتوسعت حالة الفوضى بشكل كبير على جانبي خطوط التماس، وبرز في طرفي النزاع أمراء حرب وأثرياء حرب يساهمون في المزيد من دفع الأمور نحو الفوضى، وذلك من خلال محاولتهم السيطرة على مقدّرات المناطق التي تقع تحت سيطرتهم، وبناء ثروات كبيرة من خلال أعمال البلطجة والخطف … إلخ.
وفي إطار تصاعد العنف الأعمى للنظام، ودخول بعض الجماعات المتطرفة على المناطق المحررة لملء الفراغ الناجم عن غياب الدولة من جهة، وغياب الدعم للقوى المسلحة المعتدلة من جهة أخرى، فقد تصاعدت مشاعر الحقد والنقمة الطائفية. وبالرغم من أن هذه المشاعر لم تكن لها تجليات واسعة إلا أن حوادث التطهير العرقي وحالات الجرائم الطائفية البحتة كانت محدودة، لكننا نعتقد أن ثمة مخاطر جدية من انفلاتها في حالة الانهيار التام للدولة من دون توفير قوة بديلة لملء الفراغ.

• المناطق تحت سيطرة القوى المنتفضة: (ريف إدلب، ريف حلب والقسم الشرقي من المدينة، المناطق الشرقية والشرقية الشمالية، درعا).
بالرغم من تحرر هذه المناطق من السلطة السياسية للنظام وخروجها النسبي عن دائرة اجهزته القمعية، فإن الكثير من تلك المناطق ما زال يعتمد على خدمات أساسية تتم تلبيتها من قبل ماكينة الدولة، من خلال شبكة الكهرباء والماء.
كما استمر النظام في دفع رواتب شرائح معينة من الموظفين من داخل المناطق المحررة بهدف إبقائها خارج الانخراط الفعلي في الانتفاضة. ذلك أن جزءاً مهماً من مصالحها ما زال رهناً بيد النظام، اذ يحتاج الموظفون لاستلام رواتبهم شهرياً الذهاب إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام، حيث يتعرضون لمختلف أنواع المساءلة والابتزاز.
لقد أتاحت الصعوبات الاقتصادية المتفاقمة ، وتردد أصدقاء الشعب السوري في بلورة سياسة واضحة تجاه الأزمة، واستمرار التنازع بين القوى الإقليمية في دعم قوى معينة على الأرض دون غيرها، بل وانفلات الوضع الداخلي، وانهيار الأمن المجتمعي العام، كل هذه العوامل أتاحت الفرصة لدخول عناصر إسلامية متطرفة، وسمح لها باحتلال بعض المواقع على الأرض في ظل النقص الفادح في موارد القوى المسلحة المعتدلة وضعف تدريبها، بل سمح ذلك في بعض المناطق لقوى إسلامية متطرفة وبخاصة دولة الإسلام في العراق والشام “د.ا.ع.ش.” والنصرة إلى السيطرة على بعض المرافق والمقدرات والموارد في بعض المناطق، وقيامها بأعمال إجرامية من قتل ونهب وسبي، واعتداء على كل من يعارض سلطتها.
وبالتالي فإن تعزيز قدرات القوى العسكرية المعتدلة وتعزيز دور القوى والإدارات المدنية يشكل الحلقة الرئيسية التي تسمح بالخروج من المأزق الراهن في المناطق المحررة، فالمستقبل مرتبط بشكل كبير بالمراهنة في سياق استراتيجي على معركة الحاضنة الشعبية.

الوضع العام في حلب: ( ملخص لدراسات ميدانية)
تعيش حلب بقسميها الشرقي والغربي (المحرّر والنظامي) تحت وطأة أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة، ويزيد القصف المتواصل مأساة السكّان، وفي حين تقتصر قذائف الجيش الحر على المناطق القريبة من الجبهات، يقوم النظام بغارات دورية بالطيران الحربي على الأحياء (المحرّرة)، بالإضافة لاستخدامه صواريخ أرض-أرض في بعض المناطق. وتنتشر المظاهر المسلّحة بشكل كبير في شوارع الأحياء المحرّرة مع غياب واضح لمؤسسات الدولة أو من ينوب عنها في تسيير شؤون ومصالح الناس.
في حي بستان القصر مثلاً والذي تسيطر عليه كتائب مختلفة تنقطع الكهرباء معظم ساعات اليوم، وكذلك المياه التي تصل إلّا نادراً، ولا تغيب أصوات القذائف طوال اليوم، سواءً تلك التي يطلقها النظام على الحي بشكل عشوائي أو التي يطلقها الجيش الحر باتجاه خطوط التماس مع النظام على الأحياء التي ما تزال تحت سيطرة النظام. في حين يصبح مشهد معارك الخبز في كل شارع مشهداً مألوفاً، حيث يتصارع السكّان على ربطة خبز لقوتهم اليومي.
ولكن، وعلى الرغم من كل هذا المشهد فإن الحراك المدني يبرز كشكل من أشكال المقاومة، حيث ظهرت الكثير من الحركات والجمعيات المدنية من قبل بعض الذين آثروا البقاء على السفر، والاهتمام بالمجالين الخدمي والإغاثي في ظل نقص اللجان الإغاثية والهيئات الخدمية في المنطقة، حتى أن بعض البلدات في القامشلي باتت تشهد أنواعاً من النشاط الترفيهي والرياضي، خاصة مع تنامي الشعور بعدم وجود مرجعيات كما في السابق تقوم باحتكار مثل تلك الأنشطة، أو قوانين تحرّم العمل المدني.
وفي السياق نفسه يواجه العمل المدني تحدياً كبيراً نظراً للقوى المسيطرة، أو لطبيعة الصراع وأشكاله، ففي مدينة مثل عامودا التي شهدت انخراطاً واسعاً في الانتفاضة يحاول حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني فرض هيمنته، وهو ما يحوّل اهتمام السكان عن أهمية العمل المدني، أو ربما كحالة رفض لعودة الاحتكار إلى الحياة العامة.
لقد خرج الكثير من الناشطين في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية في دورات تدريبية على العمل المدني، ولكن في الكثير من الأوقات تكون الدورات فرصة لمغادرة المكان، وعدم العودة مرة أخرى، ومع هذا فإن الحراك المدني بات يشهد حالة من التنوع أكثر من ذي قبل، وبات أكثر تخصصاً، مثل الاهتمام التربوي، وتوثيق الانتهاكات، وإحياء التكافل الاجتماعي من خلال بعض المبادرات العامة.
الانقسامات هي السمة العامة والمسيطرة على العمل المدني، وفي بعض المدن مثلاً هناك مجلسين محليين، وفي كل مجلس هناك خلافات، ومحاولات التوحيد تمر بصعوبات عديدة، أهم هذه الصعوبات هو تدخّل قوى مسلّحة مختلفة في صناعة القرار، بالاضافة لتأثير أصحاب المساعدات المالية الخارجية عليها أيضاً، وعدم اهتمامها بتوحيد تلك المجالس.
يبدو أن كافة العاملين على الصعيد المدني والإداري ينتظرون شيئاً من الغد بصورة عامّة، وأنّ الغد سيحمل لهم الحل رغم أنّهم لا يعرفون تفاصيله، البعض يؤمن أن النظام سيسقط أو على الأقل رأس النظام، وحين يتم ذلك سيتم تشكيل حكومة جديدة تفرض سيطرتها على كافة المناطق وتقوم بإدارتها، وهنا سؤال عمّا اذا كان احتمال عودة النظام أحد الاحتمالات الغامضة والمبهمة التي ينتظرونها من الغد. معظم السكّان يرفضون هذا الاحتمال ويرون أن ما بينهم ويبن النظام قُطع ومن دون رجعة مهما حصل، في حين أنّ البعض وخصوصاً ممّن يعمل في القطاع الحكومي يرى أنّه احتمال وارد.
يدرك بعض الناشطين والعاملين في المجال المدني عمق مشكلة الحاضنة الشعبية وأهميتها، ويحاولون تطوير عملهم ونشاطاتهم واستراتيجتهم لتمتين علاقتهم بالمجتمع ، ويجهل آخرون هذا التحدّي أو يتنكّرون له ويرفضون إشراك القوى التي لم تنخرط في الثورة في الماضي في مهام إدارة المناطق المحرّرة. العمل على تمتين الحاضنة الشعبية يحتاج لتوجيه ودعم سياسي ليصبح توجّهاً عاماً ويحقّق النتائج والأهداف التي يسعى إليها.
• على الصعيد العسكري
الاستياء من تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام يزداد ويتفاقم، سواءً من قبل المدنيين أو التشكيلات العسكرية الأخرى في الساحة مثل الجيش الحر، ومن الواضح أنّ الأمور تتجه نحو الاصطدام بشكل تدريجي. دولة الإسلام تتعامل بشدّة وغلظة مع المجتمع المحلّي والناشطين، كما أنّها تعادي عدداً كبيراً من الكتائب وتكفرّهم، وترفض التعاون معهم.
لتنظيم جبهة النصرة وضع مختلف، خصوصاً في المناطق التي يكون عدد كبير من مقاتلي الجبهة من الجنسية السورية ومن أبناء المنطقة، حيث يشعر الأهالي بارتياح أكبر لهم من “داعش”، بالإضافة لإعجابهم بشجاعتهم وانضباطهم وابتعادهم عن السرقة، وبدأ النّاس يميّزون بشكل واضح بين تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام “داعش” وتنظيم جبهة النصرة.
يوجد عدد كبير من التشكيلات العسكرية قادتها مدنيون أو عسكريون، يتميّز القادة المدنيون بالشجاعة، بينما يقرّ الكثيرون بفشل هؤلاء القادة في التخطيط العسكري للمعارك، وأنهم يتقنون الهجوم والقتال فقط.
وصلت مساعدات عسكرية خارجية لكتائب وألوية، ومن المهم جداً الاشارة إلى أن هذه المساعدات وصلت في الآونة الأخيرة من الخارج مقسّمة بشكل دقيق بين مستحقّيها، ولم تكن قيادة الأركان سوى وسيط لنقلها وتسليمها للكتائب والألوية كلٌّ بحسب الحصّة المخصصة له.
إعادة ترتيب الولاءات والروابط بين الكتائب المقاتلة هو الأمر السائد، حيث تدخل كتيبة ما في تشكيلة لواء أكبر لتستطيع تحصين نفسها ضد كتائب أخرى، أو طلباً للذخيرة والعتاد، وربّما تعيد اصطفافها مع لواء آخر او كتائب أخرى بحسب الظروف المحيطة. وعند وفاة قائد معيّن فغالباً ما تتبعثر مجموعته ويتفرّق مقاتلوها بين كتائب أخرى. ضعف الرواتب او انعدامها أحد الأسباب التي تفقد القائد النفوذ على عناصره، وتؤدي لتراجع الانضباط والطاعة بين عناصره، بالإضافة لكونهم من المدنيين البعيدين عن السلوك والانضباط العسكري الذي يكتسبه الفرد عند انخراطه في الجيش.
حركة أحرار الشام الإسلامية من التنظيمات التي تعمل على تطوير برنامج سياسي ومدني بجانب برنامجها العسكري، وتجذب قسماً من الشباب المتدينين الذين يفضّلون الابتعاد عن تنظيمات جهادية، اتقاءً لنظرة المجتمع أو حتّى خوفاً من مشكلات مستقبلية في حال قرّروا السفر خارج سوريّا.
في بدايات شهر أغسطس/ آب 2013 سحب النظام بعضاً من قواته المتمركزة في ريف إدلب ، وقام بإرسالها إلى الساحل لدعم قواته في معركتهم مع مقاتلي المعارضة بعد أن اشتدّت حدّة المعارك هناك.
وفي حلب ما يزال التقدّم بطيئاً على مختلف الجبهات مع حالة استعصاء عامّة، ويتم التقدّم من بناء إلى آخر خلال أيّام. إذا استطاع الجيش السوري دفع الجيش الحر للتراجع شارعين مثلاً يكون قد أعادهم أشهراً للوراء. يعتمد تكتيك الجيش الحر على ضرب عدد منخفض من القذائف على المنطقة التي ينوي اقتحامها ليدفع الناس للنزوح منها أملاً بتخفيض عدد الضحايا لحظة الاقتحام، وحين يضمن نزوح عدد كبير من السكّان، يبدأ اقتحامه المنطقة وضربها بشكل كثيف.
من أسباب الاستعصاء العسكري الحالي في حلب تطوير الجيش النظامي لقدراته القتالية في حرب الشوارع، إذ يلاحظ الآن أن الجنود استطاعوا بناء متاريس منيعة وتطوير تكتيكاتهم لتلائم حرب الشوارع، وترافق هذا مع انخفاض في التسليح القادم لحلب عن العام الماضي ، والتراجع المعنوي لدور القوى المسلحة المعتدلة ساهم في خلق حالة من الاستعصاء في حلب.
ميدانياً استطاع الجيش الحر تحقيق بعض الانتصارات مؤخراً، منها في خان العسل، وقطع طريق خناصر (طريق إمداد لقوى النظام) وبهذا يحصر طرق الإمداد لدى النظام بطريق معامل الدفاع القادم عن طريق حماة-سلمية.
ومع استمرار غياب الدعم الجدي للقوى المعتدلة يتراجع عملياً دور العسكر والضباط المنشقّين في قيادة كتائب الجيش الحر لصالح زعامات مدنية لا تملك خبرة عسكرية حقيقية في القتال والتخطيط، وهذا يؤثر سلباً على قوة الجيش الحر وقدرته على خوض المعارك خاصة في حلب.

الرقة:
أمّا في الرقّة، فقد تمّ توحيد عدد من الكتائب المقاتلة في الجيش الحر ، وتشكيل الفرقة 11 التي ضمّت عدداً من الألوية (ثوار الرقة، المنتصر بالله، أمناء الرقة، الناصر صلاح الدين)، ولكن عملية التوحيد لم تشميل الألوية التابعة لتشكيلات عسكرية موجودة على كامل خريطة الصراع، مثل لواء أحفاد الرسول. وهنا يبرز نوعين من التشكيلات العسكرية في الجيش الحر، ألوية تابعة لمناطق معينة، معظم أفرادها من أبناء المنطقة، وألوية موجودة في عدد من المدن والجبهات ترفض الدخول في عمليات مشابهة للتوحيد مثل لواء أحفاد الرسول وكتائب أحرار الشام. لكتائب أحرار الشام نفوذ كبير في الرقّة، وفي حين تستطيع الهيئة الشرعية فرض سيطرة من نوع ما على المدنيين، فإنها تعجز عن فرضها على الكتائب (أو المدنيين ممّن يدورون في فلكها) مثل كتائب أحرار الشام.
تشهد المناطق الشمالية الشرقية والشرقية ارتفاعاً في حدة المواجهات بين الفصائل المختلفة والمنتشرة فيها، ووصلت هذه المواجهات إلى ذروتها في الشهر الفائت بعد حوادث مدينة رأس العين “سري كانيه” في محافظة الحسكة بين “قوات حماية الشعب YPG ” من جهة و”جبهة النصرة” من جهة أخرى، إضافةً إلى المعلومات التي تناقلتها وسائل الإعلام حول الدستور الكردي المزعم تبنيه وتطبيقه من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، وبعض الشخصيات والقوى المؤيدة لهذا الحزب. كل هذه الأسباب أدت لحدوث اضطرابات واشتباكات عنيفة بين قوات من حماية الشعب YPG الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD ولواء جبهة الأكراد من جهة، وعناصر من جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، وعدد من الكتائب التابعة للجيش السوري الحر، من جهة أخرى، مما أدى إلى نزوح جماعي للآلاف من العائلات الكردية التي لجأت إلى العراق في أكبر عمليات النزوح التي تحدث في سوريا منذ اندلاع ثورتها، ويرى البعض أن سبب هذا التدفق يعود إلى قيام حكومة إقليم كردستان العراق بفتح معبر فيشخابور الذي كان مغلقاً، مما سمح لأكراد سورية بالعبور، في حين يرى البعض الآخر أن الأمر يعود لقيام ما يسمى جبهة النصرة بقتل بعض الأكراد السوريين في سورية، في حين يعزى البعض سبب النزوح إلى التدهور الأمني الكبير في سورية وافتقاد الأمان والاستقرار، ولذلك يفضل السوريين الأكراد النزوح إلى كردستان العراق، خاصةً بعد الاهتمام والتخصيصات المالية التي قدمتها حكومة الإقليم للعناية والاهتمام بالنازحين الأكراد، حيث خصصت حكومة الإقليم 25 مليون دولاراً لمساعدة النازحين الكرد من سوريا.
وبعد التمادي في العنف الذي لجأت إليه “داعش” حاولت بعض كتائب الجيش الحر في الرقة التصدي لهم، فلجات الدولة الإسلامية إلى تنفيذ مخطط لإقصاء الجيش الحر، والسيطرة على المدينة، منسحبةً من القتال في جبهات النظام.

الاستنتاجات

من جهة القانون الدولي فإن المسؤولية عن استحدام الأسلحة الكيماوية تقع على منتجها بالدرجة الأولى، بالإضافة لمسؤولية مستخدمها. وفي حين تحاول القيادة السورية أن تنفي مسؤوليتها عن إصدار أمر إطلاق السلاح الكيماوي، فإنه من الثابت أن الصواريخ والقذائف المذخرة بالأسلحة الكيماوية قد أطلقت من مواقع تقع تحت سيطرتها تماماً.
يوضح الاستعراض السابق أن الأزمة السورية قد دخلت مرحلة جدية أكثر حرجاً ودقة وتعقيداً من خلال استخدام الكيماوي في غوطة دمشق. وبغض النظر عن حصول الضربة الأمريكية المحتملة بحد ذاتها او عدمه، فلقد خرجت الأزمة عن سيطرة الأفرقاء الداخليين، وأصبح الاستعصاء الراهن في الأزمة يشكل عبئاً على الوضع الإقليمي، ليصبح الاصطفاف حولها تدريجياً هو الاصطفاف الحاكم لتوزيع القوى والتحالفات في المنطقة، ولتصبح الأزمة السورية عبئاً كبيراً على العلاقات الدولية.
وكما عرضنا سابقاً في تحليلنا لسيناريوهات الضربة المحتملة فإننا نستطيع القول إن ضربة محددة هي وحدها القادرة على تخفيض القدرات الجوية والصاروخية ومقدرات النظام في القيادة والسيطرة، كما يمكن لها أن تشكل مخرجاً بالنسبة للولايات المتحدة، بل إننا نعتقد أن هذا النجاح لا يمكن أن تكتمل عناصره ما لم يترافق ذلك بدفعة قوية (وإن كانت متأخرة) لدعم القوى العسكرية المعتدلة وتمكينها من تعزيز بناها المدنية والإدارية.
ومع علمنا بأن أي عمل عسكري هو ساحة للمفاجآت السلبية والإيجابية. لكن علينا أن ندرك أيضاً أن العوامل التي نمت بفضل التأخر في معالجة الأزمة طوال سنتين ونصف وإهمال المجتمع الدولي لنكبة الشعب السوري هو المصدر الأساسي للمخاطر التي نراها اليوم وكل يوم من تقاعس المجتمع الدولي، وهو ما سيجعل كلفة معالجتها عليه أصعب وأكثر كلفة، بل وكارثياً على كل المنطقة والعالم.
لقد قدم مركز الشرق للبحوث في السابق العديد من الدراسات التي تشير إلى أن مآل السيناريو العفوي للأمور في سورية سيؤدي إلى تحويلها إلى ثقب أسود يجر المنطقة إليه بكل عناصرها ومكوناتها، لتصبح سوريا اشبه ب” وزير- ستان” أخرى، بل ويمكن أن يتسبب بحروب بين دولها في المدى المنظور ايضاً.
كما قدم مركزنا العديد من الدراسات التي توضح أن استمرار وهم إرادة الولايات المتحدة وأصدقاء سورية بل ومجمل المجتمع الدولي في حل الأزمة السورية سوف يفتح الطريق لصعود القوى الأكثر تعصباً والتي تتمتع بإرادة وشكيمة غاية في العناد. والحرب في رأينا بالنتيجة حرب إرادات.

Leave a comment